الدعوة إلى الدخول في الإسلام
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(208)فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(209)هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(210)سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(212)}
سبب نزول الآية [208]:
نزلت في عبد الله بن سَلاَم وأصحابه من اليهود لما عظموا السبت وكرهوا الإبل بعد قبول الإسلام، قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يوم نعظمه، فدعنا فلنُسِبت فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} الآية. هذا ما رواه ابن جرير عن عكرمة.
وروى عطباء عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سَلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بشرائعه وشرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعدما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم أمر تعالى المؤمنين بالانقياد لحكمه والاستسلام لأمره والدخول في الإِسلام الذي لا يقبل الله ديناً سواه فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} أي ادخلوا في الإِسلام بكليته في جميع أحكامه وشرائعه، فلا تأخذوا حكماً وتتركوا حكماً، لا تأخذوا بالصلاة وتمنعوا الزكاة مثلاً فالإسلام كلٌ لا يتجزأ، ويريد الله تعالى بهذه الدعوة أن يعصم الناس من فتنة اختلاف أهوائهم، ثم حذرنا الحق جل وعلا من اتباع الشيطان لأنه هو الذي يعمل على إبعادنا عن منهج الله، فقال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي لا تتبعوا طرق الشيطان وإغواءه فإنه عدوَ لكم ظاهر العداوة، وعداوته لكم قديمة، وقد توعدكم بالإغواء جميعاً، فقال تعالى على لسانه: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} [ص: 82-83].
فائدة: ضابط التفريق بين ما يزينه الشيطان وما تزينه النفس: أن النفس تصر على معصية من لون واحد، فهي تريد من صاحبها لوناً واحداً من المعصية يتبع نقصها، كحب تجميع المال من حله وحرامه، أو الركض وراء الجنس وما إلى ذلك. وأما الشيطان فلا يصر على معصية بعينها، فكلما تفطن الإنسان لإغوائه من باب انتقل إلى باب آخر ولون آخر من المعصية حتى يوقع صاحبه، ولا لذا قال تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}، فسبله متعددة، فإذا وفّق الله عبده وغلق على الشيطان الباب الذي أتاه منه فلا يطمئن إلى جانبه،وعليه أن ينتظر مجيئه من باب آخر.
{فإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ}، الزلة هي المعصية، وهي مأخوذة من "زال"، وذاك الشيء إذا خرج عن استقامة، فكل شيء له استقامة والخروج عنها يعتبر زللاً وانحرافاً، أي إن انحرفتم عن الدخول في الإسلام من بعد مجيء الحجج الباهرة والبراهين القاطعة على أنه حق {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي اعلموا أن الله غالب لا يعجزه الانتقام ممن عصاه حكيم في خلقه وصنعه {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} أي ما ينتظرون شيئاً، وما الذي يؤجل دخولهم في الإسلام كافة؟ فهل ينتظرون إِلا أن يأتيهم الله يوم القيامة لفصل القضاء بين الخلائق حيث تنشق السماء وتظهر آيات الله العظام وأمره وتأتي ظللٍ من الغمام وحملة العرش والملائكة الذين لا يعلم كثرتهم إِلا الله ولهم زجل من التسبيح يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح {وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي انتهى أمر الخلائق بالفصل بينهم فريق في الجنة وفريق في السعير، وإِلى الله وحده مرجع الناس جميعاً. والمقصود تصوير عظمة يوم القيامة وهولها وشدتها وبيان أن الحاكم فيها هو ملك الملوك جل وعلا الذي لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه وهو أحكم الحاكمين. والمراد من هذا الخطاب والتقريع أن ينتهزوا الفرصة ويندفعوا لهذا الدين الحق قبل أن يفوت الأوان.
فائدة: قوله تعالى: {ترجع الأمور} فيها قراءتان بفتح التاء وضمها، فعلى الفتح فإن الأمور تكون مندفعة إلى الله بذاتها، وعلى الضم فإنها تساق إلى سوقاً، فكذلك الإنسان ففاعل الخيرات يرغب في لقاء ربه وينساق إليه، وفاعل الموبقات يكره لقاء الله ولكنه يُساق إليه سوقاً، فمن لم يأت راغباً جاء راهباً.
ثم قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} "كم" هنا كناية عن الإخبار عن الأمر الكثير بخلاف "كم" الاستفهامية. أي سلْ يا محمد بني إِسرائيل - توبيخاً لهم وتقريعاً - كم شاهدوا مع موسى من معجزات باهرات وحجج قاطعات تدل على صدقه، ألم يفلق لهم البحر ونجاهم من فرعون؟ ألم يظللهم الله بالغمام؟ ألم يعطهم الله المنّ والسلوى؟ وغير ذلك من نعمه التي لا تعد ولا تُحصى، ومع ذلك كفروا ولم يؤمنوا، فحل عليهم غضب الله وأخذهم بالسنين وألوان العذاب، {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي من يبدل نعم الله بالكفر والجحود بها فإِن عقاب الله له أليم وشديد، والعقاب كما يكون في الآخرة يكون في الدنيا أيضاً وبألوان شتى وما هذه الزلازل والبراكين والعواصف والأمراض والأزمات وغيرها ببعيد عنا، {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي زينت لهم شهوات الدنيا ونعيمها حتى نسوا الآخرة وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهافتوا عليها وأعرضوا عن دار الخلود. {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي وهم مع ذلك يهزؤون ويسخرون بالمؤمنين يرمونهم بقلة العقل لتركهم ما حرمه الله عليهم من الدنيا وإِقبالهم على الآخرة كقوله {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} قال تعالى رداً عليهم {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي والمؤمنون المتقون لله فوق أولئك الكافرين منزلةً ومكانة، فهم في أعلى علّيين وأولئك في أسفل سافلين، والمؤمنون في الآخرة في أوج العز والكرامة والكافرون في حضيض الذل والمهانة.
فائدة: قال تعالى: {والذين اتقوا فوقهم} ولم يقل {والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة} حتى لا يؤخذ الإيمان على أنه اسم مجرد عن مسماه الذي هو الالتزام بمقتضياته، فالدرجة العالية يوم القيامة لا تنال بمجرد الادعاء بل لا بد من التقوى.
{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي والله يرزق أولياءه رزقاً واسعاً رغداً، لا فناء له ولا انقطاع كقوله {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أو يرزق في الدنيا من شاء من خلقه ويوسع على من شاء مؤمناً كان أو كافراً، براً أو فاجراً على حسب الحكمة والمشيئة دون أن يكون له محاسب سبحانه وتعالى.
فائدة: من الخطأ أن نحصر الرزق فيما هو شائع كالمال والأولاد، لأن الزرق يشمل كل ما ينتفع به، فالعلم رزق والخلق رزق، والصبر رزق، والصحة رزق والمكانة في المجتمع رزق وغير ذلك من الأرزاق التي لا تعد ولا تحصى، فمن ابتلى في نوع واحد من الرزق كالمال مثلاً فتضجر ونسي الأرزاق الكثيرة التي متعه الله بها فهو من اللؤماء.
ما يستخلص من الآيات [208-212]:
1- الإسلام كل متكامل لا يقبل التجزء، فمن آمن به وجب عليه أن يلتزم بجميع تعاليمه ونبذ ما سواه مما يتعارض معه، فمن لم يستجب لذلك دخل تحت قوله تعالى: {أفتؤمنون بعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة: 85].
2- ودل قوله تعالى: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات} على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافراً بترك الشرائع.
3- ودل قوله تعالى: {زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون ...} على أن ميزان التفضيل عند غالبية الناس هو المال والجاه والسلطان، وهو ميزان خاسر لأنه يعود على أصحابه بالخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، وأن ميزان العدل والإنصاف هو ميزان التقوى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وأما المال والجاه والسلطان فقد يرفع صاحبه إذا اقترن بالتقوى وسخر فيما يرضي الله ويخدم عباده، وقد يهوي بصاحبه في أسفل السافلين.
4- ودل قوله تعالى {والله يرزق من يشاء بغير حساب} على أن الله تعالى يعطي الدنيا للمؤمن وللكافر {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء وما كان عطاء ربك محظوراً} [الإسراء: 20] ولكنه تعالى لا يعطي الآخرة إلا للمؤمن الطائع.
وأن تعالى تقسم هذه الدنيا بين عباده كيفما يشاء من غير أن يخضع عطاؤه لمحاسب، فلا يجوز للعبد العاقل أن يعترض على مولاه، لما أعطيت فلاناً وأغدقت عليه بالمال وحرمتني؟
وقد نسي هذا الغفل المسكين أن الله حرمه لوناً واحداً من الرزق لحكمة هي في صالحه، وأغدق عليه بألوان كثيرة من الأرزاق، وأعطى ذلك –الذي ظنه محظوظاً- لوناً واحداً من الرزق وحرمه ألواناً كثيرة لِحِكَم هي في صالحه، نعوذ بالله من أن نعود إلى الكفر بعد الإيمان.
[b]